آخر تحديث للموقع : الثلاثاء - 26 نوفمبر 2024 - 09:25 م
السياق التاريخي للهوية الجنوبية..مقاربات في إشكالية الهوية
الأحد - 17 ديسمبر 2023 - الساعة 07:53 م
بادئ ذي بدء لا بد من التذكير بأنه وحتى العام 1967 كان الجنوب يتكون من 23 دويلة اتخذت أشكال السلطنات والمشيخات والإمارات لكل منها حدودها الجغرافية وبنيتها السكانية وملامحها الثقافية والتاريخية، وعاداتها وتقاليدها التي وإن تشابهت مع بعض جاراتها فإنها تظل متميزة بشيء لا يتوفر لدى سواها، وبرغم بدائية الحياة الاقتصادية والمعيشية والحضارية في معظم هذه الكيانات فإن المصالح الاقتصادية والمعيشية لم تشهد أي اندماج في ما بينها، ومثلما قيل عن العادات والتقاليد والبنية الثقافية يمكن أن يقال عن ملامح النفسيية الاجتماعية لدى معظم أبناء هذه الكيانات.
لقد احتفظت كل من تلك الكيانات السياسية الجنوبية بهويتها المميزة وحدودها الجغرافية وعلمها وعاصمتها وكان لبعضها برلمانه وجيشه النظامي ونظامه الأمني وجواز سفره ومجلس وزرائه، وحتى تلك الإمارات والسلطنات التي دخلت في إطار الاتحاد الفيدرالي لإمارات الجنوب العربي، لم تستطع أن تكون هوية واحدة متجانسة ومتبلورة تعبر عن كينونة موحدة لكل سكانها، ولو بشكلها الجنيني،بل لقد احتفظ كل منها بحدوده ومنظومته الإدارية ومقومات هويته، وكان بعضها قد دخل في حروب مع البعض الآخر حتى وهي داخل إطار "الاتحاد الفيدرالي".
كل هذا قد حال دون ظهور وتبلور هوية جنوبية واحدة يمكن القول بأنها تعبر عن كل الجنوبيين أو سوادهم الأعظم، ذلك إن الانتماء والشعور بالمشاركة السياسية والاجتماعية، ومنظومة المصالح والإرث الثقافي، كل ذلك لم يكن ليتحقق إلا من خلال البنية السياسية التي ينتمي إليها المواطنون وتتجسد فيها مصالحهم وذاكرتهم التاريخية وثقافتهم الشعبية، وهي السلطنة أو القبيلة أو المشيخة أو الإمارة.
ويمكننا القول إنه وحتى في أفضل أيام الاتحاد الذي لم يعمر طويلاً (1959ـ1967م) ومع تأسيس الجيش الاتحادي وحكومة ومجلس الاتحاد وبدايات محاولة إدخال عدن بمجلسها التشريعي وتقاليدها المدنية والديمقراطية (النسبية) والعمل المؤسسي الذي عرفت به، مع كل ذلك كانت الهوية الجنوبية تتشكل كبذور وبراعم جنينية وإرهاصات حقيقية لهوية تتخلق وتنمو بصورة طبيعية، لكن ليس في مؤسسات "اتحاد الجنوب العربي الفيدرالي" بل في مكان آخر وبيئة أخرى وفي ظل شروط ومعطيات أخرى.
لقد كانت البدايات الجنينية للهوية الجنوبية تتشكل وتتخلق في خضم نشوء وتطور الحركة الوطنية بجناحيها النقابي والسياسي حيث عبر عدد من التنظيمات السياسية والمؤسسات النقابية عن نشوء شبكة من الارتباطات على أسس جديدة مختلفة عما مثلته الدويلات والإمارات والسلطنات كلٌ على انفراد أو بما جاء به مشروع الاتحاد الفيدرالي، إذ كان الجنوب يبحث عن طريق جديد ينتقل به من واقع التبعية والتجزئة والتخلف والتمزق والتنازع وضعف الخدمات وتدني مستوى النمو إلى واقع جديد مختلف نوعياً عن ذلك الواقع المعاش في تلك الحقبة.
وقد ساهمت التطورات الاقتصادية التي شهدتها عدن خلال الخمسينات خصوصا بعد افتتاح مصفاة عدن الصغرى، بالإضافة إلى ميناء عدن ومطارها، وتوسيع حركة تجارة الترانزيت واتساع وكالات الشركات العالمية فضلا عن نشوء بعض الصناعات الصغيرة والمتوسطة، واتساع حركة المعمار في عدن، كل هذا قد ساهم في نشوء حركة عمالية منظمة ومتطورة نسبياً، من خلال نقاباتها التي لعبت دوراً كبيراً في توحيد العمال ليس فقط في رفع مطالبهم النقابية المتصلة بتحسين أوضاعهم المعيشية، بل وفي المساهمة اللاحقة في رفض السياسات الاستعمارية ونقل المطالب النقابية إلى جزء من مطالب الحركة الوطنية الجنوبية التي ترفع شعاراتها الأحزاب والتنظيمات السياسية في عدن وبقية مدن الجنوب.
ولا يمكن المرور على هذه اللحظة التاريخية دون التعرض للدور التنويري الذي لعبته الصحافة العدنية التي تعود بداياتها إلى العقد الثاني من القرن العشرين، ومع منتصف الأربعينات وبداية الخمسينات من القرن الماضي أخذت الصحافة العدنية في الانتشار والتطور وتكوين حركة إعلامية ذات منشأ جنوبي مميز ونكهة وطنية واضحة، فكانت صحف مثل "فتاة الجزيرة"، "القلم العدني"، "الأمل"، "الفجر"، "الصباح "، "الأيام"، "الطريق" وغيرها قد شقت طريقها بقوة ووضوح إزاء نقد السياسات الاستعمارية (وإن بدرجات متفاوتة) والتعبير عن تطلعات ومطالب المواطنين العدنيين والجنوبيين عموماً، مما خلق حالة من الجدل الثقافي والسياسي على الساحة العدنية ساهمت في رفع الوعي السياسي ورفد الحراك السياسي بمزيد من أسباب النمو والتطور.
كان تشكيل التنظيمات والأحزاب السياسية والمنظمات المهنية والنقابية على أساس وطني عريض عماده المصالح المشتركة والمنازع والميول المشتركة ووجهات النظر السياسية المشتركة، كل هذا كان علامة نشوء وعي جديد يبحث عن هوية جديدة مثلت لبنات أولية لنشوء وتطور الهوية الجنوبية المنتظرة.
وجاءت ثورة الرابع عشر من أوكتوبر ومسارها النضالي (المسلح) وما ترافق معها من مقاومة مدنية للوجود الاستعماري في المدن، كل هذا جاء ذلك ليعزز شعوراً بالانتماء إلى كيان أكبر من القبيلة والسلطنة والمشيخة وأكبر حتى من الكيان الاتحادي (اتحاد الجنوب العربي) كمشروعٍ ارتبط نشوؤه وتطوره وحتى اتجاهاته السياسية بالتوافق مع المصالح البريطانية في مناطق انتشاره.
ولا شك أن حركة نهوض الوعي القومي وما حققه المد الثوري في أكثر من بلد عربي في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم ـ وخصوصاً التجربة الناصرية في مصر ـ قد ساهم في تعزيز الوعي بالانتماء إلى كيان أكبر من المشيخة والسلطنة وغيرها من الكيانات الصغيرة واقترن نشوء الوعي الوطني بتنامي الشعور بالانتماء القومي (العروبي) في أتون المعركة الضارية بين معسكر الاستعمار وأنصاره ومعسكر ثورات التحرر العربية التي كانت تعبر عن طموح ورغبة الشعوب العربية في الحرية والاستقلال والتخلص من التبعية للغرب الاستعماري، ومواجهة الصهيونية التي كان مشروعها ما يزال في سنواته الأولى.
وفي سياق العمليات التاريخية والمتغيرات السياسية الوطنية تبلور مفهوم الهوية الوطنية الجنوبية ليصبح مع قيام دولة الاستقلال في الثلاثين من نوفمبر 1967م حقيقة أكثر واقعية وأكثر قابلية للتطور والترسخ والتعمق في وجدان السواد الأعظم من أبناء الجنوب.
لم يكن الثلاثون من نوفمبر وقيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية سوى لحظة انعطاف تاريخي في تشكل ونمو وصيرورة الهوية الجنوبية التي كما هو معروف ككل مولود جديد، لم تولد جاهزةً مكتملة الشروط والمقومات، لكنها غدت حقيقة لا تقبل الجدال، إذ غدا لدى الجنوبيين لأول مرة دولة جديدة اسمها جمهورية اليمن الجنوبية ـ ثم لاحقا الديمقراطية ـ الشعبية والتي فتح قيامها آفاقاً جديدة أمام تنامي وتعمق هوية جديدة واضحة المعالم أخذت مسارها في النمو والنضوج والتمظهر والترسخ والتعمق خلال عقدين ونصف من الزمن شهدت ما شهدت من تنامي عوامل وأسباب ديمومتها واستمراريتها.
÷÷÷÷÷÷÷÷
متى صار الجنوب يمنيا؟؟
========
ذلك ما سنتوقف عنده خلال اللقاءات القادمة.
_________
* ملخصات من كتاب "القضية الجنوبية وإشكالية الهوية"