آخر تحديث للموقع : الثلاثاء - 26 نوفمبر 2024 - 04:56 م

مقالات


ثابت عوض لا يُجارى...

الأحد - 17 نوفمبر 2024 - الساعة 12:32 م

صقر الهدياني
الكاتب: صقر الهدياني - ارشيف الكاتب




منذُ كنتُ صغيرًا وأنا لا أحب الشعر الشعبي، لا يروق لي الشعر باللهجات العامية، وكنتُ إذا ما سمعتُ أبياتًا منه بالصدفة أتنرفز وأمتعض لحظتي الذهنية تلك، ظللتُ أعتقد إن الشعر الشعبي مجرد تسفيه شعبوي يقوله البُلهاء. لم أكن أؤمن أنه شعر عربي قط، مهما كانت النغمة الموسيقية لذيذة، لأن الشعر ليس مجرد وزن سليم للتفعيلة العروضية فحسب، بل هو فكرة، وصورة تشبيهية، ولغة جيّدة، ورسالة سامية تحمل قيمتها الجوهرية على لسانِ شاعر فحل متمكن.

وحده ثابت عوض اليهري مذ وعيتُ شعره آمنتُ أنَّ الشعر الشعبي شعر عربي له جماله ودهشته في التشبيهات والمجازات والاستعارات والموسيقى العروضية، وكل ما يجب أن يتوفر من شروط في الشعر الفصيح، باستثناء الفرق بين الفصحى والعامية.
ثابت عوض هذا شاعرٌ شعبيٌ لا يُقارن بأحد. تُذهلني شاعريته الفذّة في التقاط الصور التي لا تخطر في ذهنِ أحد، وقدرته على تطويع اللهجة الشعبية في قصيدة عصماء لذيذة ومدهشة. الله، أي قدرة بلغها ثابت عوض في الشعر حتى يلتقط ويُركّب أسلوبه الشعري الفريد مؤثثًا للشعر عصره الذهبي الجديد!.
في قصيدته المشهورة حين رأى أم وابنتها، كانت لحظته الذهنية مُفرغة كليًّا من الرتابة، وهو ما جعله يُفجّر قدرته على الدخول في القصيدة من أول بيت، "شفت الشمس بعد المغرب" لاحظوا كيف افتتح القصيدة بطريقة مذهلة مسببًا الصدمة والدهشة في ذهن المستمع كما لم يفعلها شاعر شعبي من قبل، دخول مفاجئ بحمل مفارقة تشير إلى عبقرية الشاعر دون تكلّف أو ابتذال، ثم أتبع هذه الدهشة بدهشة أخرى "لا كذبة ولا فزورة" وهذه الصياغة الفنية لا يجيدها أي شاعر إلا فحلٌ متمكن. في منتصف القصيدة، يقول في وصف قامتها:
عليا في السماء قامتها
هي شلال هي نافورة

تِخجِل من يناظر فيها
وتغمّش عدس ناظوره.
وهذا وصف جديد لم يسبقه أحد فيه، فلو أراد شاعر أن يصف قوام حسناء، لاستهلك ما قالوه بطول نخلة، أو طرواة خيرزان، أو ما نعرفه من ذلك، لكن ثابت عوض شبهها بشلال ينساب أعلى يسكب جماله في مصبٍّ ما، أو مثل نافورة مياه صاعدة نحو الأعلى في مشهدٍ بصري مليء بالحيوية.
وأنا قصيدة "الآلة الحاسبة" فهذه الخالدة يجب أن تدرَّس في المناهج مع شرحٍ مفصلٍ دقيق وعميق. هذه القصيدة بالنسبة لي هي أقوى قصائد الشاعر الأسطورة، ملحمة تاريخية هجا فيها الشمال بطريقة تدميرية لا تُبقي ولا تذر، جندّل بها شعراء الشمال دفعة واحدة، فطريقة افتتاحه للقصيدة مفاجئة وعظيمة "وين الآلة الحاسبة". يا إلهي، كأنه جاء من فوضى وحسابات ظالمة، فصرخ غاضبًا يبحث عن طريقة لحساب كل شيء، مثل أب عاد للمنزل، فوجد عبثًا غير متوقع، فكان عليه فرض هيبته وترتيب كل الخراب ومحاسبة العابثين.

ثابت عوض طفرة شعرية عابرة للجغرافيا والحدود، موهبة خارقة تدعو للتأمل، بل إن هذا الشاعر ظاهرة لا تتكرر، ولا لأحد قدرة على مجاراته. فالبردّوني في الشعر الفصيح أعظم من أنجبت اليمن شمالًا وجنوبًا، واليهري في الشعر الشعبي أعظم من أنجبت اليمن شمالًا وجنوبًا. ولو أن بيدي لرفعته إلى مستوى شعراء المعلقات السبع.